فصل: تفسير الآية رقم (78):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم التنزيل المشهور بـ «تفسير البغوي»



.تفسير الآيات (70- 71):

{فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (70) وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71)}
{فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ} أي: إلى العجل، {نَكِرَهُمْ} أنكرهم، {وَأَوْجَسَ} أضمر، {مِنْهُمْ خِيفَةً} خوفا. قال مقاتل: وقع في قلبه، وأصل الوجوس: الدخول، كان الخوف دخل قلبه. وقال قتادة: وذلك أنهم كانوا إذا نزل بهم ضيف فلم يأكل من طعامهم ظنوا أنه لم يأت بخير وإنما جاء بشر. {قَالُوا لا تَخَفْ} يا إبراهيم إنا رسل ربك. يعني:، {إِنَّا} ملائكة الله {أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ}.
{وَامْرَأَتُه} سارة بنت هاران بن أحور وهي ابنة عم إبراهيم. {قَائِمَةٌ} من وراء الستر تسمع كلامهم. وقيل: كانت قائمة تخدم الرسل، وإبراهيم جالس معهم. {فَضَحِكَت} قال مجاهد وعكرمة: ضحكت أي: حاضت في الوقت، تقول العرب: ضحكت الأرنب، أي: حاضت. والأكثرون على أنَّ المراد منه الضحك المعروف.
واختلفوا في سبب ضحكها، قيل: ضحكت لزوال الخوف عنها وعن إبراهيم حين قالوا: لا تخف. وقال السدي: لما قرّب إبراهيم الطعام إليهم فلم يأكلوا خاف إبراهيم وظنهم لصوصا فقال لهم: ألا تأكلون؟ قالوا: إنا لا نأكل طعاما إلا بثمن، فقال إبراهيم: فإن له ثمنا، قالوا وما ثمنه؟ قال تذكرون اسم الله على أوله وتحمدونه على آخره، فنظر جبريل إلى ميكائيل وقال: حُقَّ لهذا أن يتخذه ربه خليلا. فلما رأى إبراهيم وسارة أيديهم لا تصل إليه ضحكت سارة، وقالت: يا عجبا لأضيافنا إنا نخدمهم بأنفسنا تكرمة لهم وهم لا يأكلون طعامنا.
وقال قتادة: ضحكت من غفلة قوم لوط وقرب العذاب منهم.
وقال مقاتل والكلبي: ضحكت من خوف إبراهيم من ثلاثة في بيته وهو فيما بين خدمه وحشمه.
وقال: ضحكت سرورا بالبشارة.
وقال ابن عباس ووهب: ضحكت تعجبا من أن يكون لها ولد على كبر سنِّها وسنِّ زوجها.
وعلى هذا القول تكون الآية على التقديم والتأخير، تقديره: وامرأته قائمة فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب، فضحكت، وقالت: يا ويلتا أألد وأنا عجوز؟.
قوله تعالى: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ} أي: من بعد إسحاق، {يَعْقُوبَ} أراد به والد الولد فبشرت أنها تعيش حتى ترى ولد ولدها قرأ ابن عامر وحمزة وحفص يعقوب بنصب الباء، أي: من وراء إسحاق يعقوب. وقيل: بإضمار فعل، أي: ووهبنا له من وراء يعقوب. وقرأ الباقون بالرفع على حذف حرف الصفة. وقيل: ومن بعد إسحاق يحدث يعقوب، فلما بشرت بالولد ضحكت فصكت وجهها، أي: ضربت وجهها تعجبا.

.تفسير الآيات (72- 73):

{قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73)}
{قَالَتْ يَا وَيْلَتَى} نداء ندبة وهي كلمة يقولها الإنسان عند رؤية ما يتعجب منه، أي: يا عجبا. والأصل يا ويلتاه. {أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ} وكانت ابنة تسعين سنة في قول ابن إسحاق. وقال مجاهد: تسعا وتسعين سنة. {وَهَذَا بَعْلِي} زوجي، سمي بذلك لأنه قيّم أمرها، {شَيْخًا}؛ نصب على الحال، وكان سن إبراهيم مائة وعشرين سنة في قول ابن إسحاق. وقال مجاهد: مائة سنة، وكان بين البشارة والولادة سنة، {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ}.
{قَالُوا} يعني الملائكة، {أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} معناه: لا تعجبي من أمر الله، فإن الله عز وجل إذا أراد شيئا كان. {رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ} أي: بيت إبراهيم عليه السلام. قيل: هذا على معنى الدعاء من الملائكة، وقيل: معنى الخير والرحمة والنعمة.
والبركات جمع البركة، وهي ثبوت الخير. وفيه دليل على أن الأزواج من أهل البيت.
{إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ} فالحميد: المحمود في أفعاله، والمجيد: الكريم، وأصل المجد الرفعة.

.تفسير الآيات (74- 77):

{فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75) يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76) وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77)}
{فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ} الخوف، {وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى} بإسحاق ويعقوب، {يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ} فيه إضمار، أي: أخذ وظل يجادلنا.
قيل: معناه يكلمنا لأن إبراهيم عليه السلام لا يجادل ربه عز وجل إنما يسأله ويطلب إليه.
وقال عامة أهل التفسير: معناه يجادل رسلنا، وكانت مجادلته أنه قال للملائكة: أرأيتم لو كان في مدائن لوط خمسون من المؤمنين أتهلكونهم؟ قالوا: لا قال: أو أربعون؟ قالوا: لا قال: أو ثلاثون؟ قالوا: لا حتى بلغ خمسة، قالوا: لا، قال: أرأيتم إن كان فيها رجل واحد مسلم أتهلكونها؟ قالوا: لا قال إبراهيم عليه السلام عند ذلك: إن فيها لوطا. قالوا: نحن أعلم بمن فيها، لننجيه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين.
{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} قال ابن جريج: وكان في قرى قوم لوط أربعة آلاف ألف، فقالت الرسل عند ذلك لإبراهيم.
{يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} أي: أعرض عن هذا المقال ودع عنك الجدال، {إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ} أي: عذاب ربك وحكم ربك، {وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ} نازل بهم، {عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ} أي: غير مصروف عنهم.
قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا} يعني: هؤلاء الملائكة، {لُوطًا} على صورة غلمان مرد حسان الوجوه، {سِيءَ بِهِمْ} أي: حزن لوط بمجيئهم، يقال: سؤته فسيء، كما يقال: سررته فسر. {وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا} أي: قلبا. يقال: ضاق ذرع فلان بكذا: إذا وقع في مكروه لا يطيق الخروج منه، وذلك أن لوطا عليه السلام لما نظر إلى حسن وجوههم وطيب روائحهم أشفق عليهم من قومه أن يقصدوهم بالفاحشة، وعلم أنه سيحتاج إلى المدافعة عنهم.
{وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ} أي: شديد كأنه عصب به الشر والبلاء، أي: شدّ.
قال قتادة والسدي: خرجت الملائكة من عند إبراهيم عليه السلام نحو قرية لوط فأتوا لوطا نصف النهار، وهو في أرض له يعمل فيها.
وقيل: إنه كان يحتطب. وقد قال الله تعالى لهم: لا تهلكوهم حتى يشهد عليهم لوطٌ أربع شهادات، فاستضافوه فانطلق بهم، فلما مشى ساعة قال لهم: ما بلغكم أمر أهل هذه القرية؟ قالوا: وما أمرهم؟ قال: أشهد بالله إنها لشر قرية في الأرض عملا. يقول ذلك أربع مرات، فدخلوا معه منزله.
وروي: أنه حمل الحطب وتبعته الملائكة فمرّ على جماعة من قومه فغمزوا فيما بينهم، فقال لوط: إنَّ قومي شر خلق الله، ثم مرّ على قوم آخرين، فغمزوا، فقال مثله، ثم مرّ بقوم آخرين فقال مثله، فكان كلما قال لوط هذا القول قال جبريل للملائكة: اشهدوا، حتى أتى منزله.
ورُوي: أنّ الملائكة جاؤوا إلى بيت لوط فوجدوه في داره ولم يعلم بذلك أحد إلا أهل بيت لوط، فخرجت امرأته فأخبرت قومها، وقالت: إن في بيت لوط رجالا ما رأيت مثل وجوههم قط.

.تفسير الآية رقم (78):

{وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِي فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78)}
{وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ} قال ابن عباس وقتادة: يسرعون إليه. وقال مجاهد: يهرولون، وقال الحسن: مشي بين مشيتين. قال شمر بن عطية: بين الهرولة والجمز.
{وَمِنْ قَبْلُ} أي: من قبل مجيئهم إلى لوط، {كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ} كانوا يأتون الرجال في أدبارهم. {قَالَ} لهم لوط حين قصدوا أضيافه وظنوا أنهم غلمان، {يَا قَوْمِ هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} يعني: بالتزويج، وفي أضيافه ببناته، وكان في ذلك الوقت، تزويج المسلمة من الكافر جائزًا كما زوّج النبي صلى الله عليه وسلم ابنته من عتبة بن أبي لهب، وأبي العاص بن الربيع قبل الوحي، وكانا كافرين.
وقال الحسين بن الفضل: عرض بناته عليهم بشرط الإسلام.
وقال مجاهد وسعيد بن جبير: قوله: {هَؤُلاءِ بَنَاتِي} أراد: نساءهم، وأضاف إلى نفسه لأن كل نبي أبو أمته. وفي قراءة أبي بن كعب: {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجُه أمهاتُهم} [الأحزاب- 6] وهو أب لهم.
وقيل: ذكر ذلك على سبيل الدفع لا على التحقيق، ولم يرضوا هذا.
{فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِي فِي ضَيْفِي} أي: خافوا الله ولا تخزونِ في ضيفي، أي: لا تسوءوني ولا تفضحوني في أضيافي. {أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ} صالح سديد. قال عكرمة: رجل يقول لا إله إلا الله. وقال ابن إسحاق: رجل يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.

.تفسير الآيات (79- 81):

{قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (79) قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80) قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81)}
{قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ} يا لوط، {مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ} أي: لسن أزواجا لنا فنستحقهن بالنكاح. وقيل: معناه مَا لنَا فيهن من حاجة وشهوة. {وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ} من إتيان الرجال.
{قَالَ} لهم لوط عند ذلك: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً} أراد قوة البدن، أو القوة بالأتباع، {أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} أي: أنضم إلى عشيرة مانعة. وجواب {لو} مضمر أي لقاتلناكم وحُلْنا بينكم وبينهم. قال أبو هريرة: ما بعث الله بعده نبيا إلا في منعة من عشيرته.
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، أنبأنا أبو اليمان، أنبأنا شعيب بن أبي حمزة، أنبأنا أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يغفر الله للوط إنْ كانَ لَيأوي إلى رُكنٍ شديد».
قال ابن عباس وأهل التفسير: أغلق لوط بابه والملائكة معه في الدار، وهو يناظرهم ويناشدهم من وراء الباب وهم يعالجون تسوّر الجدار، فلما رأتِ الملائكة ما يلقى لوط بسببهم: {قَالُوا يَا لُوطُ} إنَّ ركنك لشديد، {إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ} فافتح الباب ودعنا وإياهم، ففتح الباب فدخلوا فاستأذن جبريل ربه عز وجل في عقوبتهم، فأذن له، فقام في الصورة التي يكون فيها فنشر جناحه وعليه وشاح من دُرٍّ منظوم، وهو برَّاق الثنايا، أجلى الجبين، ورأسه حُبُك مثل المرجان، كأنه الثلج بياضا وقدماه إلى الخضرة، فضرب بجناحه وجوههم فطمس أعينهم وأعماهم، فصاروا لا يعرفون الطريق ولا يهتدون إلى بيوتهم، فانصرفوا وهم يقولون: النجاء النجاء، فإن في بيت لوط أسحر قوم في الأرض سحرونا، وجعلوا يقولون: يا لوط كما أنت حتى تصبح فسترى ما تلقى منا غدا. يُوعِدونه، فقال لوط للملائكة: متى موعد إهلاكهم؟ فقالوا: الصبح، فقال: أريد أسرع من ذلك فلو أهلكتموهم الآن، فقالوا {أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} ثم قالوا، {فَأَسْرِ} يا لوط، {بِأَهْلِكَ}.
قرأ أهل الحجاز {فَاسْرِ} و{أنِ اسرِ} بوصل الألف حيث وقع في القرآن من سرى يَسْري، وقرأ الباقون بقطع الألف من أسرى يُسري، ومعناهما واحد وهو المسير بالليل.
{بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ} قال ابن عباس: بطائفة من الليل. وقال الضحاك: ببقية. وقال قتادة: بعد مضي أوله وقيل: إنه السحر الأول.
{وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلا امْرَأَتَكَ} قرأ ابن كثير وأبو عمرو: {امرأتُك} برفع التاء على الاستثناء من الالتفات، أي: لا يلتفت منكم أحد إلا امرأتُك فإنها تلتفت فتهلك، وكان لوط قد أخرجها معه ونهى من تبعه، ممن أسرى بهم أن يلتفت، سوى زوجته، فإنها لما سمعت هدة العذاب التفتت، وقالت: يا قوماه، فأدركها حجر فقتلها.
وقرأ الآخرون: بنصب التاء على الاستثناء من الإسراء، أي: فأسر بأهلك إلا امرأتك فلا تَسْرِ بها وخَلِّفها مع قومها، فإن هواها إليهم، وتصديقه قراءة ابن مسعود {فأسر بأهلك بقطع من الليل إلا امرأتك ولا يلتفت منكم أحد}.
{إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ} من العذاب، {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ} أي: موعد هلاكهم وقت الصبح، فقال لوط: أريد أسرع من ذلك، فقالوا {أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ}.

.تفسير الآيات (82- 84):

{فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83) وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84)}
قوله: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا} عذابنا، {جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا} وذلك أن جبريل عليه السلام أدخل جناحه تحت قرى قوم لوط المؤتفكات وهي خمس مدائن، وفيها أربعمائة ألف، وقيل: أربعة آلاف ألف، فرفع المدائن كلها حتى سمع أهل السماء صياح الديكة، ونباح الكلاب، فلم يكفأ لهم إناء ولم ينتبه نائم، ثم قلبها فجعل عاليها سافلها. {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا} أي على شذاذها ومسافريها. وقيل: بعدما قلبها أمطر عليها، {حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ} قال ابن عباس رضي الله عنهما وسعيد بن جبير: (سنك وكل) فارسي معرب.
وقال قتادة وعكرمة: السجيل الطين، دليله قوله عز وجل: {لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ} [الذاريات- 33].
قال مجاهد: أولها حجر وآخرها طين.
وقال الحسن: كان أصل الحجارة طينا فشددت.
وقال الضحاك: يعني الآجر.
وقيل: السجيل اسم السماء الدنيا.
وقيل: هو جبال في السماء، قال الله تعالى: {وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ} [النور- 43].
قوله تعالى: {مَنْضُودٍ} قال ابن عباس رضي الله عنهما: متتابع، يتبع بعضها بعضا، مفعول من النضد، وهو وضع الشيء بعضه فوق بعض.
{مُسَوَّمَة} من نعت الحجارة، وهي نصب على الحال، ومعناها معلمة: قال ابن جريج: عليها سيما لا تشاكل حجارة الأرض.
وقال قتادة وعكرمة: عليها خطوط حمر على هيئة الجزع.
وقال الحسن والسدي: كانت مختومة عليها أمثال الخواتيم.
وقيل: مكتوب على كل حجر اسم من رُمي به.
{عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ} يعني: تلك الحجارة، {مِنَ الظَّالِمِينَ} أي: من مشركي مكة، {بِبَعِيدٍ} وقال قتادة وعكرمة: يعني ظالمي هذه الأمة، والله ما أجار الله منها ظالما بعد.
وفي بعض الآثار: «ما من ظالم إلا وهو بعرض حجر يسقط عليه من ساعة إلى ساعة».
وروي: أن الحجر اتبع شذاذهم ومسافريهم أين كانوا في البلاد، ودخل رجل منهم الحرم فكان الحجر معلقا في السماء أربعين يوما حتى خرج فأصابه فأهلكه.
قوله عز وجل: {وَإِلَى مَدْيَنَ} أي: وأرسلنا إلى ولد مدين، {أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ} أي: لا تبخسوا، وهم كانوا يطففون مع ِشْركهم، {إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ} قال ابن عباس: موسرين في نعمة. وقال مجاهد: في خصب وسعة، فحذرهم زوال النعمة، وغلاء السعر، وحلول النقمة، إن لم يتوبوا. فقال: {وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ} يحيط بكم فيهلككم.